القائمة الرئيسية

الصفحات

"خيط حرقة" جديد ينتشر في صفوف التونسيين

"خيط حرقة" جديد ينتشر في صفوف التونسيين



لئن تعددت المسالك والطرق فإن الهدف واحد وهو بلوغ الأراضي الأوروبية بأقل خطر ممكن في ظل تواتر الأخبار حول غرق مراكب الموت ورواج قصص عديدة حول الجرائم البشعة التي ترتكب في عرض البحر في حال احتج مهاجر على الوضعية المزرية لظروف الرحلة غير المطابقة للوعود أو كانت الحمولة زائدة عن طاقة استيعاب المركب بما يمكن أن يتسبب في غرقه.



لن نقف في هذا التقرير على تعداد أسباب لجوء الشباب والأطفال إلى الهجرة غير النظامية، فالدوافع كثيرة والدراسات والمقالات التي تناولت هذه الظاهرة أكثر، بيد أنه لا حلول تلوح في الأفق والهجرة في ارتفاع غير مسبوق خاصة وقد أضحى المهاجرون يسلكون خط رحلات جديد "جوي-بري" يعرف بـ"خط الكزاوي".. خط طويل يدوم لأشهر أحيانًا لكنه "مضمون" وأكثر "أمانًا"، وفق شهادات كثيرين من سالكيه.




هنا في الجنوب التونسي وتحديدًا بمحافظة تطاوين، اكتشف أهالي المنطقة شبكة هجرة غير نظامية جديدة مغايرة لتلك التقليدية "الحرقة" المحفوفة بالمخاطر والمراقبة بصرامة من قبل الدولة. "الخيط" الجديد شهر بـ"الكزاوي" وهي كنية تنتسب إلى أصول "المهرب" المغربية، وفق الروايات المتداولة. "الحرقة عبر البر أضمن من البحر"



يقول "مالك" أصيل محافظة تطاوين (اسم مستعار)، وهو عشريني متحصل على أكثر من شهادة في التكوين المهني بعديد المجالات كالكهرباء والألياف البصرية، إنه حاول مرارًا وتكرارًا الهجرة إلى أوروبا عبر تأشيرة سياحية لكن جميع محاولاته باءت بالفشل ولم يبق من حل أمامه سوى صربيا.


مالك (شاب عشريني): حاولت مرارًا الهجرة إلى أوروبا عبر تأشيرة سياحية لكن جميع محاولاتي باءت بالفشل، فلم يبق من حل أمامي سوى الهجرة عن طريق صربيارغم أن كلفتها عمومًا تناهز الـ20 ألف دينار
 
"غادرت تونس نحو تركيا في شهر فيفري/شباط الماضي، قضيت يومين بإحدى النزل وتوجهت إلى صربيا ثم بلغراد وسوبوتيتسا المدينة التي تواصلت فيها مع الشخص الذي سيقوم بنقلي إلى هنغاريا ومنها اتجهت بالقطار نحو سلوفاكيا، جمهورية التشيك، النمسا، سويسرا، وصولًا إلى فرنسا".
 
يضيف مالك في حديثه لـ"الترا تونس" أن "رحلته طالت لكنه حاول الهجرة بأقل التكاليف، ما يناهز 5 آلاف دينار، في حين أن مثل هذه الرحلات تتراوح تكلفتها بين 15 و20 ألف دينار وحتى أكثر"، وفقه.




ويرى المتحدث أن "الهجرة غير النظامية عبر البر أسهل وأضمن ولم يشهد طريق صربيا سوى حادثة وفاة وحيدة الأسبوع الماضي في حين أن الحوادث في البحر تتكرر بصفة شبه يومية".

ولفت إلى أنه يشتغل حاليًا في مشروع عائلي مع أخيه وأقربائه المقيمين بفرنسا، مؤكدًا أن "الدعم العائلي مهم جدًا في الغربة"، معقّبًا "لا أنصح أحدًا بالحرقة ما لم يضمن عملًا ومسكنًا قارًا".

يخير الشباب الراغب في الهجرة هربًا من جحيم البطالة والفقر وبحثًا عن مستقبل أفضل اتباع رحلات غير نظامية أكثر أمانًا من الرحلات البحرية التي يمكن أن تكلفهم حياتهم، وعلى الرغم من ذلك فإن الرحلات غير النظامية لا تخلو من المخاطر وإن اختلفت درجات الخطر فقد لقي 4 شبان أصيلي محافظة تطاوين حتفهم بداية الشهر الجاري إثر تعرضهم لحادث مرور خطير في سيارة مهرب على الحدود النمساوية.

وبما أن عدد المهاجرين غير النظاميين المتطلعين لبلوغ الأراضي الأوروبية عبر تركيا وصربيا ارتفع مؤخرًا بشكل لافت، قررت السلطات التركية فرض قيود سفر على التونسيين نحو صربيا عبر أراضيها لمعاضدة المجهودات الدولية في مكافحة الهجرة غير النظامية، وهو ما أثار حفيظة المدافعين على حرية الإنسان في التنقل. "الهجرة أصبحت عقلية"

تفيد إحصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي أعلن عنها الناطق باسمه رمضان بن عمر بأن عدد التونسيين الذين وصلوا إلى سواحل إيطاليا في هجرة غير نظامية بلغ 3730 شخصًا وذلك في الفترة الممتدة بين 15 أوت/أغسطس و8 سبتمبر/أيلول الجاري وهو رقم مرتفع ومفزع يطرح أكثر من تساؤل حول نزيف الهجرة.


سامي نصر (أستاذ علم اجتماع) لـ"الترا تونس": الهجرة غير النظامية تطورت عبر السنوات فتحولت من ظاهرة اجتماعية إلى عقلية فالجميع يرغب في الهروب من الواقع المعلوم الذي نعيشه في اتجاه عالم مجهول بحثًا عن جرعة أمل

ويضيف بن عمر، في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (الوكالة الرسمية)، أن 7745 تونسيًا وصلوا إلى إيطاليا خلال شهري جويلية/ يوليو وأوت/أغسطس وتم منع 8939 تونسيًا فيما تم فقدان 49 آخرين، والملفت للنظر في موجة الهجرة التي تشهدها البلاد هو انخراط العائلات والقصر والأطفال في رحلات الموت، وفقه.

ويرى أستاذ علم الاجتماع سامي نصر أن "الهجرة غير النظامية تطورت عبر السنوات فتحولت من ظاهرة اجتماعية إلى عقلية"، معتبرًا أن "الهجرة كظاهرة اجتماعية أقل خطورة من تحولها إلى عقلية فيصبح تفكير الجميع في كيفية مغادرة البلاد كل حسب إمكانياته سواء عبر إجراءات قانونية أو عن طريق الحرقة برًا أو بحرًا، ومن لم يقدر على ذلك يسافر عبر المخيال"، حسب تعبيره.

ويضيف نصر، في حديثه لـ"الترا تونس"، أن "الخطر الوحيد الذي يثير مخاوف الراغبين في الحرقة هي قوارب الموت، وبالتالي يلجؤون إلى طرق أخرى أقل خطورة حتى وإن كانت تكلفتها المادية أكثر باعتبار أن خطر البر يختلف عن خطر البحر علاوة على أن الوجهة الإيطالية لم تعد مرغوبة بسبب الاكتظاظ".

كما أشار إلى أن "الجميع يرغب في الهروب من الواقع المعلوم الذي نعيشه في اتجاه عالم مجهول بحثًا عن جرعة أمل"، حسب تصوّره.






ولفت الباحث في علم الاجتماع إلى أن "الهجرة ارتبطت بثقافة انتشرت في العشرية الأخيرة وهي ثقافة اليأس والإحباط والألم في ظل فشل جميع الحكومات المتعاقبة في خلق روح الأمل بالإضافة إلى غياب مؤسسات القرب مثل دور الثقافة والنوادي والمصايف مما يدفع بالشباب إلى العيش في عالم افتراضي أو يحاول بشتى الطرق مغادرة البلاد".

وتابع سامي نصر: "في السابق كانت لدينا أزمة حاكم وأزمة حكم، يمكن إصلاحها بمراسيم وقوانين لكن اليوم أصبح لدينا أزمة شعب. إنقاذ الدولة بعد أن تنهار أسهل من إنقاذ الشعب بعد الانهيار، رغم ذلك لا وجود لأي محاولات لإعادة الاعتبار لمعنويات المواطن التونسي"، حسب رأيه.


سامي نصر: الهجرة غير النظامية ارتبطت بثقافة انتشرت في العشرية الأخيرة وهي ثقافة اليأس والإحباط والألم في ظل فشل جميع الحكومات المتعاقبة في خلق روح الأمل

كما انتقد عدم قيام مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية بدراسات ميدانية لمعرفة كيفية تفكير التونسي وتنفيذ خطة استراتيجية، كذلك الإدارة العامة للتهيئة الترابية التابعة لوزارة التجهيز والتي تقوم بأمثلة توجيهية في غاية الأهمية تتعلق بالمشاريع المزمع تنفيذها خلال 20 سنة، مؤكدًا أنه "من المهم معرفة التونسي للمشاريع الحقيقية المزمع تنفيذها".

وشدد المتحدث على أهمية السياسة الاتصالية في إعادة الأمل للمواطنين معربًا عن أسفه للتعامل مع المسائل المتعلقة بالمواطنين وكأنها هامشية أو ثانوية ولا تحظى بأولوية. كما اعتبر أن الحلول الأمنية في التعامل مع ظاهرة الهجرة أثبتت عدم نجاعتها، حسب تقديره.هجرة بمباركة العائلة

يضطر بعض الشباب التونسي إلى مغادرة البلاد نحو الفضاء الأوروبي في رحلات غير نظامية دون موافقة الأهل وحتى دون استئذانهم فيحزمون متعهم على حين غرة، ولا يبقى أمام العائلة من حل سوى الاستسلام والرضوخ لقرارات أبنائهم، الرفض العائلي لا يتعلق بفكرة الهجرة في حد ذاتها بل مرده الخوف من قوارب الموت وخسارة فلذات أكبادهم في مغامرات قد تكلف من يخوضها العمر، لكن "خط" الهجرة الجديد عبر تركيا وصربيا بدد المخاوف وأنعش الأمل في صفوف الحالمين بالهجرة وعائلاتهم.